فصل: باب فضل المسجد الأبعد والكثير الجمع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب من نسي التشهد الأول حتى انتصب قائمًا لم يرجع

1 - عن ابن بحينة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم‏)‏‏.‏

رواه النسائي‏.‏

2 - وعن زياد بن علاقة قال‏:‏ ‏(‏صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا بنا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال‏:‏ هكذا صنع بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏

3 - وعن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائمًا فليجلس وإن استتم قائمًا فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث الأول أخرجه بقية الأئمة الستة بنحو لفظ النسائي الذي ذكره المصنف والحديث الثاني أخرجه أيضًا أبو داود وفي إسناده المسعودي وهو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود استشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد‏.‏ وأخرجه الترمذي أيضًا من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة‏.‏ قال أحمد‏:‏ لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى وقد تكلم فيه غيره‏.‏

والحديث الثالث أخرجه أيضًا الدارقطني والبيهقي ومداره علي جابر الجعفي وهو ضعيف جدًا وقد قال أبو داود‏:‏ ولم أخرج عنه في كتابي غير هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقام في الركعتين‏)‏ يعني أنه قام إلى الركعة الثالثة ولم يتشهد عقب الركعتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما فرغ من صلاته‏)‏ استدل به من قال إن السلام ليس من الصلاة وقد تقدم البحث عن ذلك وتعقب بأن السلام لما كان للتحلل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته‏.‏ ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج‏:‏ ‏(‏حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم‏)‏ فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ مقبولة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم سلم‏)‏ استدل بذلك من قال إن السجود قبل التسليم وقد قدمنا الخلاف فيه وما هو الحق‏.‏ وزاد الترمذي في الحديث‏:‏ ‏(‏وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس‏)‏ وفي هذه الزيادة فائدتان ‏(‏إحداهما‏)‏ أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الإمام ولقوله في الحديث الصحيح ‏(‏لا تختلفوا‏)‏ وقد أخرج البيهقي والبزار عن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ إن الإمام يكفي من وراءه فإن سها الإمام فعليه سجدتا السهو وعلى من وراءه أن يسجدوا معه وإن سها أحد ممن خلفه فليس عليه أن يسجد والإمام يكفيه‏)‏ وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف وأبو الحسين المدائني وهو مجهول‏.‏ والحكم بن عبيد اللَّه وهو أيضًا ضعيف‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن ابن عباس عند ابن عدي وفي إسناده عمر بن عمرو العسقلاني وهو متروك وقد ذهب إلى أن المؤتم يسجد لسهو الإمام ولا يسجد لسهو نفسه الحنفية والشافعية‏.‏

ومن أهل البيت زيد بن علي والناصر والمؤيد باللَّه والإمام يحيى وروي عن مكحول والهادي أنه يسجد لسهوه لعموم الأدلة وهو الظاهر لعدم انتهاض هذا الحديث لتخصيصها وإن وقع السهو من الإمام والمؤتم فالظاهر أنه يكفي سجود واحد من المؤتم أما مع الإمام أو منفردًا وإليه ذهب الفريقان والناصر والمؤيد باللَّه‏.‏ وذهب الهادي إلى أنه يجب عليه سجودان لسهو الإمام ثم لسهو نفسه والظاهر ما ذهب إليه الأولون‏.‏

‏[‏والفائدة الثانية‏]‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏مكان ما نسي من الجلوس‏)‏ يدل على أن السجود إنما هو لأجل ترك الجلوس لا لترك التشهد حتى لو أنه جلس مقدار التشهد ولم يتشهد لا يسجد وجزم أصحاب الشافعي وغيرهم أنه يسجد لترك التشهد وإن أتى بالجلوس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليجلس‏)‏ زاد في رواية ولا سهو عليه وبها تمسك من قال إن السجود إنما هو لفوات التشهد لا لفعل القيام وإلى ذلك ذهب النخعي وعلقمة والأسود والشافعي في أحد قوليه وذهبت العترة وأحمد بن حنبل إلى أنه يجب السجود لفعل القيام لما روي عن أنس أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تحرك للقيام في الركعتين الآخرتين من العصر على جهة السهو فسبحوا له فقعد ثم سجد للسهو أخرجه البيهقي والدارقطني موقوفًا عليه‏.‏

وفي بعض طرقه أنه قال‏:‏ هذه السنة‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ورجاله ثقات وأخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي عن ابن عمر من حديثه بلفظ‏:‏ ‏(‏لا سهو إلا في قيام عن جلوس أو جلوس عن قيام‏)‏ وهو ضعيف‏.‏

ـ واستدل ـ بأحاديث الباب أن التشهد الأول ليس من فروض الصلاة إذ لو كان فرضًا لما جبر بالسجود ولم يكن بد من الإتيان به كسائر الفروض وبذلك قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور وذهب أحمد وأهل الظاهر إلى وجوبه وقد تقدم الكلام على هذا الاستدلال والجواب عنه في شرح أحاديث التشهد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن استتم قائمًا فلا يجلس‏)‏ فيه أنه لا يجوز العود إلى القعود والتشهد بعد الانتصاب الكامل لأنه قد تلبس بالفرض فلا يقطعه ويرجع إلى السنة‏.‏ وقيل يجوز له العود ما لم يشرع في القراءة فإن عاد عالمًا بالتحريم بطلت لظاهر النهي ولأنه زاد قعودًا وهذا إذا تعمد العود فإن عاد ناسيًا لم تبطل صلاته وأما إذا لم يستتم القيام فإنه يجب عليه العود لقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائمًا فليجلس‏)‏‏.‏

 باب من صلى الرباعية خمسًا

1 - عن ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسًا فقيل له‏:‏ أزيد في الصلاة فقال‏:‏ وما ذلك فقالوا‏:‏ صليت خمسًا فسجد سجدتين بعد ما سلم‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلى الظهر خمسًا‏)‏ في هذه الرواية الجزم وقد تقدم عن إبراهيم النخعي التردد والكل من طريقه عن علقمة عن ابن مسعود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال وما ذلك‏)‏ كذا في بعض النسخ وفي بعضها فقيل وما ذاك وفي بعضها فقال لا وما ذاك بزيادة لا وهي ثابتة في مسلم وأبي داود وبها يتبين أن أخبارهم كان بعد استفساره صلى اللَّه عليه وآله وسلم لهم‏.‏

والحديث يدل على أن من صلى خمسًا ساهيًا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد‏.‏ وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري‏:‏ أنها تفسد إن لم يجلس في الرابعة قال أبو حنيفة‏:‏ فإن جلس في الرابعة ثم صلى خمسًا فإنه يضيف إليها ركعة أخرى وتكون الركعتان له نافلة والحديث يرد ما قالاه وإلى العمل بمضمونه ذهب الجمهور وقد فرق مالك بين الزيادة القليلة والكثيرة من الساهي‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ إن مذهب مالك أنه إن زاد دون نصف الصلاة لم تبطل صلاته بل هي صحيحة ويسجد للسهو وإن زاد النصف وأكثر فذهب ابن القاسم ومطرف إلى بطلانها‏.‏ وقال عبد الرحمن بن حبيب وغيره‏:‏ إن زاد ركعتين بطلت صلاته وإن زاد ركعة فلا وحكى عن مالك أنها لا تبطل مطلقًا‏.‏

وقد استدل بالحديث على أن سجدتي السهو محلهما بعد التسليم مطلقًا وليس فيه حجة على ذلك لأنه لم يعلم صلى اللَّه عليه وآله وسلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه أزيد في الصلاة وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على فعل ذلك بعد السلام لتعذره قبله ‏.‏

 باب التشهد لسجود السهو بعد السلام

1 - عن عمران بن حصين‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والترمذي‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا ابن حبان وحسنه الترمذي‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ صحيح على شرط الشيخين وصححه ابن حبان وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما قالوا‏:‏ والمحفوظ في حديث عمران أنه ليس فيه ذكر التشهد وإنما تفرد به أشعث عن ابن سيرين وقد خالف فيه غيره من الحفاظ عن ابن سيرين‏.‏ وقد أخرج النسائي الحديث بدون ذكر التشهد‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر ظنك على أربع تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم ثم تشهدت أيضًا ثم تسلم‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ هذا حديث مختلف في رفعه ومتنه غير قوي وهو من رواية أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه قال البيهقي‏:‏ مرسل‏.‏ وقد ضعف الحافظ في الفتح إسناد هذا الحديث‏.‏

وعن المغيرة بن شعبة عند البيهقي‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم تشهد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو‏)‏ قال البيهقي‏:‏ تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي ولا يفرح بما تفرد به‏.‏ وقال في المعرفة‏:‏ لا حجة فيما تفرد به لسوء حفظه وكثرة خطئه في الروايات انتهى‏.‏

وقد أخرج حديث المغيرة الترمذي من رواية هشام عن ابن أبي ليلى المذكور ولم يذكر فيه التشهد بعد سجدتي السهو‏.‏ وعن عائشة عند الطبراني‏.‏ وفيه‏:‏ ‏(‏وتشهدي وانصرفي ثم اسجدي سجدتين وأنت قاعدة ثم تشهدي‏)‏ الحديث‏.‏ وفي إسناده موسى بن مطير عن أبيه وهو ضعيف وقد نسب إلى وضع الحديث‏.‏

وقد استدل بحديث عمران وما ذكر معه من الأحاديث على مشروعية التشهد في سجدتي السهو فإذا كان بعد السلام كما في حديث عمران فقد حكى الترمذي عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد وهو قول بعض المالكية والشافعية ونقله أبو حامد الاسفرايني عن القديم من قولي الشافعي وفي مختصر المزني سمعت الشافعي يقول‏:‏ إذا سجد بعد السلام تشهد أو قبل السلام أجزأه التشهد الأول وإذا كان قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد‏.‏

وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده‏.‏ وعن البويطي والشافعي مثله وخطؤه في هذا النقل فإنه لا يعرف‏.‏ وعن عطاء يتخير‏.‏ واختلف فيه عند المالكية‏.‏

وحديث ابن مسعود يدل على مشروعية التشهد في سجود السهو قبل السلام وفيه المقال الذي تقدم‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ قد يقال إن الأحاديث الثلاثة يعني حديث عمران وابن مسعود والمغيرة باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن‏.‏

قال العلائي‏:‏ وليس ذلك ببعيد وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏

ـ واعلم ـ أن المراد بالتشهد المذكور في سجود السهو هو التشهد المعهود في الصلاة لا كما قاله الإمام المهدي في البحر أنه الشهادتان في الأصح لعدم وجدان ما يدل على الاقتصار على البعض من التشهد الذي ينصرف إليه مطلق التشهد‏.‏

 أبواب صلاة الجماعة

 باب وجوبها والحث عليها

1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ولأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار‏)‏‏.‏

الحديث الثاني في إسناده أبو معشر وهو ضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر‏)‏ فيه أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين‏.‏ ومنه قوله تعالى ‏{‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏ وإنما كان العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهم لهما لأن العشاء وقت السكون والراحة والصبح وقت لذة النوم ‏[‏وليس لهم داعي ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبعثهم على إتيانهما ويخف عليهم الإتيان بهما ولأنهما في ظلمة الليل وداعي الرياء الذي لأجله يصلون منتف لعدم مشاهدة من يراؤنه من الناس إلا القليل فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما ولذا قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم ناظرًا إلى انتفاء الباعث الديني عندهم ‏(‏ولو يعلمون ما فيهما‏)‏ الخ واللَّه أعلم‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولو يعلمون ما فيهما‏)‏ أي من مزيد الفضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأتوهما‏)‏ أي لأتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولو حبوا‏)‏ أي زحفًا إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ‏(‏ولو حبوا على المرافق والركب‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولقد هممت‏)‏ اللام جواب القسم ‏[‏والقسم منه صلى اللَّه عليه وسلم لبيان عظم شأن ما يذكره زجرًا عن ترك الجماعة‏]‏‏.‏ وفي البخاري وغيره‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لقد هممت‏)‏ والهم العزم وقيل دونه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأحرق‏)‏ بالتشديد يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه وفيه جواز العقوبة بإتلاف المال‏.‏

والحديث استدل به القائلون بوجوب صلاة الجماعة لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم ومن معه‏.‏ ويمكن أن يقال إن التهديد بالتحريق المذكور يقع في حق تاركي فرض الكفاية لمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وفيه نظر لأن التحريق الذي يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة ولأن المقاتلة إنما يشرع فيها إذا تمالأ الجميع على الترك‏.‏

وقد اختلفت أقوال العلماء في صلاة الجماعة فذهب عطاء والأوزاعي وإسحاق وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وأهل الظاهر وجماعة ومن أهل البيت أبو العباس إلى أنها فرض عين واختلفوا فبعضهم قال هي شرط روي ذلك عن داود ‏[‏أي إنها شرط في صحة الصلاة بناء على ما يختاره من أن كل واجب في الصلاة فهو شرط فيها ولم يسلم له هذا لأن الشرطية لا بد لها من دليل‏]‏‏.‏ ومن تبعه وروي مثل ذلك عن أحمد وقال الباقون‏:‏ إنها فرض عين غير شرط‏.‏ وذهب الشافعي في أحد قوليه قال الحافظ‏:‏ هو ظاهر نصه وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وبه قال كثير من المالكية والحنفية إلى أنها فرض كفاية وذهب الباقون إلى أنها سنة وهو قول زيد بن علي والهادي والقاسم والناصر والمؤيد باللَّه وأبو طالب وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة‏:‏

الأول‏:‏ إنها لو كانت شرطًا أو فرضًا لبين ذلك عند التوعد كذا قال ابن بطال‏.‏ ورد بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحديث يدل على خلاف المدعى وهو عدم الوجوب لكونه صلى اللَّه عليه وآله وسلم همَّ بالتوجه إلى المتخلفين ولو كانت الجماعة فرضًا لما تركها وفيه أن تركه لها حال التحريق لا يستلزم الترك مطلقًا لإمكان أن يفعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده‏.‏

الثالث‏:‏ قال الباجي وغيره‏:‏ أن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة لا يعاقبها إلا الكفار وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك وأجيب بأن ذلك وقع قبل تحريم التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزًا على أنه لو فرض هذا التوعد وقع بعد التحريم لكان مخصصًا له فيجوز التحريق في عقوبة تارك الصلاة‏.‏

الرابع‏:‏ تركه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لتحريقهم بعد التهديد ولو كان واجبًا لما عفا عنهم‏.‏ قال عياض ومن تبعه‏:‏ ليس في الحديث حجة لأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم همَّ ولم يفعل زاد النووي ولو كانت فرض عين لما تركهم وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك على أن رواية أحمد التي ذكرها المصنف فيها بيان سبب الترك‏.‏

الخامس أن التهديد لقوم تركوا الصلاة رأسًا لا مجرد الجماعة وهو ضعيف لأن قوله‏:‏ ‏(‏لا يشهدون الصلاة‏)‏ بمعنى لا يحضرون‏.‏ وفي رواية لأحمد عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏العشاء في الجمع‏)‏ أي في الجماعة‏.‏ وعند ابن ماجه من حديث أسامة‏:‏ ‏(‏لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم‏)‏‏.‏

السادس‏:‏ أن الحديث ورد في الحث على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة ذكر ذلك ابن المنير‏.‏

السابع‏:‏ أن الحديث ورد في حق المنافقين فلا يتم الدليل وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم وبأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان معرضًا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقال لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه وتعقب هذا التعقب ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا أن ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبًا عليه ولا دليل على ذلك وليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم‏.‏

قال في الفتح‏:‏ والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في صدر الحديث‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين‏)‏ ولقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏لو يعلمون‏)‏ الخ لأن هذا الوصف يليق بهم لا بالمؤمنين لكن المراد نفاق المعصية لا نفاق الكفر يدل على ذلك قوله في رواية‏:‏ ‏(‏لا يشهدون العشاء في الجمع‏)‏ وقوله في حديث أسامة‏:‏ ‏(‏لا يشهدون الجماعات‏)‏ وأصرح من ذلك ما في رواية أبي داود عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة‏)‏ فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما وصفه اللَّه تعالى من الكفر والاستهزاء‏.‏

قال الطيبي‏:‏ خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين ويدل على ذلك قول ابن مسعود الآتي‏:‏ لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال‏:‏ حدثني عمومتي من الأنصار قالوا‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ما شهدهما منافق‏.‏ ‏[‏يعني العشاء والفجر‏]‏‏.‏

الثامن‏:‏ أن فريضة الجماعة كانت في أول الأمر ثم نسخت‏.‏ حكى ذلك القاضي عياض قال الحافظ‏:‏ ويمكن أن يتقوى لثبوت النسخ بالوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار قال‏:‏ ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ومن لازم ذلك الجواز‏.‏

التاسع‏:‏ أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات وتعقب بأن الأحاديث مصرحة بالعشاء والفجر كما في حديث الباب وغيره ولا ينافي ذلك ما وقع عند مسلم من حديث ابن مسعود أنها الجمعة لاحتمال تعدد الواقعة كما أشار إليه النووي والمحب الطبري‏.‏

وللحديث فوائد ليس هذا محل بسطها وسيأتي التصريح بما هو الحق في صلاة الجماعة‏.‏

2 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن رجلًا أعمى قال‏:‏ يا رسول اللَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما دعاه فقال‏:‏ هل تسمع النداء قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأجب‏)‏‏.‏

رواه مسلم والنسائي‏.‏

3 - وعن عمرو بن أم مكتوم قال‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول اللَّه أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلاؤمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي قال‏:‏ أتسمع النداء قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ما أجد لك رخصة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث الثاني أخرجه أيضًا ابن حبان والطبراني زاد ابن حبان وأحمد في رواية‏:‏ ‏(‏فأتها ولو حبوًا‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلًا أعمى‏)‏ هو ابن أم مكتوم كما في الحديث الثاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس لي قائد‏)‏ في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏ولي قائد لا يلاؤمني‏)‏ ظاهره التنافي إذا كان الأعمى المذكور في حديث أبي هريرة هو ابن أم مكتوم ويجمع بينهما إما بتعداد الواقعة أو بأن المراد بالمنفي في الرواية الأولى القائد الملائم وبالمثبت في الثانية القائد الذي ليس بملائم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرخص له‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏قال فأجب‏)‏ قيل إن الترخيص في أول الأمر اجتهاد منه صلى اللَّه عليه وسلم والأمر بالإجابة بوحي من اللَّه تعالى‏.‏ وقيل الترخيص مطلق مقيد بعدم سماع النداء وقيل إن الترخيص باعتبار العذر والأمر للندب فكأنه قال الأفضل لك والأعظم لأجرك أن تجيب وتحضر فأجب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولي قائد لا يلاؤمني‏)‏ قال الخطابي‏:‏ يروى في الحديث يلاومني بالواو والصواب يلاؤمني أي يوافقني وهو بالهمزة المرسومة بالواو والهمزة فيه أصلية وأما الملاومة بالواو فهي من اللوم وليس هذا موضعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رخصة‏)‏ بوزن غرفة وقد تضم الخاء المعجمة بالإتباع وهي التسهيل في الأمر والتيسير‏.‏

والحديثان استدل بهما القائلون بأن الجماعة فرض عين وقد تقدم ذكرهم وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه سأل هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة لسبب عذره فقيل لا‏.‏

ويؤيد هذا أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين ومن جملة العذر العمى إذا لم يجد قائدًا كما في حديث عتبان ابن مالك وهو في الصحيح وسيأتي ويدل على ذلك حديث ابن عباس عند ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر‏)‏‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وإسناده على شرط مسلم لكن رجح بعضهم وقفه وأجاب البعض عن حديث الأعمى بأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم علم منه أنه يمشي بلا قائد لحذقه وذكائه كما هو مشاهد في بعض العميان يمشي بلا قائد لا سيما إذا كان يعرف المكان قبل العمى أو بتكرر المشي إليه استغنى عن القائد ولا بد من التأويل لقوله تعالى ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ وفي أمر الأعمى بحضور الجماعة مع عدم القائد ومع شكايته من كثرة السباع والهوام في طريقه كما في مسلم غاية الحرج ولا يقال الآية في الجهاد لأنا نقول هو من القصر على السبب وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏

ـ واعلم ـ أن الاستدلال بحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة الذي في أول الباب على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر لأن الدليل أخص من الدعوى إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى اللَّه عليه وسلم في مسجده لسامع النداء ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين أنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم ولقال لعتبان بن مالك انظر من يصلي معك ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة‏.‏

4 - وعن عبد اللَّه بن مسعود قال‏:‏ ‏(‏لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي‏.‏

هذا طرف من أثر طويل ذكره مسلم مطولًا وذكره غيره مختصرًا ومطولًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولقد رأيتنا‏)‏ هذا فيه الجمع بين ضميري المتكلم فالتاء له خاصة والنون له مع غيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وما يتخلف عنها‏)‏ يعني الصلوات الخمس المذكورة في أول الأثر‏.‏ ولفظ مسلم‏:‏ ‏(‏من سره أن يلقى اللَّه غدًا سالمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن‏)‏‏.‏

ولفظ أبي داود‏:‏ ‏(‏حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن‏)‏‏.‏

ثم ذكر مسلم اللفظ الذي ذكره المصنف وذكره غيره نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يؤتى به يهادى بين الرجلين‏)‏ أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يقام في الصف‏)‏ قال النووي‏:‏ في هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها وإذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها انتهى‏.‏

والأثر استدل به على وجوب صلاة الجماعة وفيه أنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها ولا يستدل بمثل ذلك على الوجوب وفيه حجة لمن خص التوعد بالتحريق بالنار المتقدم في حديث أبي هريرة بالمنافقين‏.‏

5 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة‏)‏‏.‏

6 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد بلفظ‏:‏ ‏(‏خمسًا وعشرين درجة كلها مثل صلاته‏)‏ وعن أُبيِّ بن كعب عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ‏:‏ ‏(‏صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى اللَّه عز وجل‏)‏‏.‏

وعن معاذ أشار إليه الترمذي وذكر لفظه ابن سيد الناس في شرحه فقال‏:‏ ‏(‏فضل صلاة الجمع على صلاة الرجل وحده خمسًا وعشرين‏)‏ وعن أبي سعيد عند البخاري بلفظ‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة‏)‏ وعنه أيضًا عند أبي داود وسيأتي‏.‏

وعن أنس عند الدارقطني بنحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب‏.‏

وعن عائشة عند أبي العباس السراج بلفظ‏:‏ ‏(‏صلاة الرجل في الجمع تفضل على صلاته وحده خمسًا وعشرين درجة‏)‏‏.‏

وعن صهيب وعبد اللَّه بن زيد وزيد بن ثابت عند الطبراني بطرق كلها ضعيفة واتفقوا على خمس وعشرين‏.‏

قال الترمذي‏:‏ وعامة من روي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنما قالوا خمسة وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال بسبع وعشرين‏.‏

قال الحافظ في الفتح‏:‏ لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد اللَّه العمري عن نافع قال خمسًا وعشرين لكن العمري ضعيف وكذلك وقع عند أبي عوانة في مستخرجه ولكنها شاذة مخالفة لرواية الحفاظ وروي بلفظ‏:‏ ‏(‏سبع وعشرين‏)‏ عن أبي هريرة عند أحمد وفي إسناده شريك القاضي وفي حفظه ضعف‏.‏ وقد اختلف هل الراجح رواية السبع والعشرين أو الخمس والعشرين فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ وقد جمع بينهما بوجوه‏:‏ منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد‏.‏ وقيل إنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخبر بالخمس ثم أخبره اللَّه بزيادة الفضل فأخبر بالسبع وتعقب بأنه محتاج إلى التاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه‏.‏ وقيل الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده‏.‏ وقيل الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع‏.‏ وقيل الفرق بإيقاعها في المسجد أو غيره‏.‏ وقيل الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره‏.‏ وقيل الفرق بإدراكها كلها أو بعضها‏.‏ وقيل الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم‏.‏ وقيل السبع مختصة بالفجر والعشاء‏.‏ وقيل بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك وقيل السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية ورجحه الحافظ في الفتح‏.‏ والراجح عندي أولها لدخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع‏.‏

ـ واعلم ـ أن التخصيص بهذا العدد من أسرار النبوة التي تقصر العقول عن إدراكها وقد تعرض جماعة للكلام على وجه الحكمة وذكروا مناسبات وقد طول الكلام في ذلك صاحب الفتح فمن أحب الوقوف على ذلك رجع إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏درجة‏)‏ هو مميز العدد المذكور وفي الروايات كلها التعبير بقوله درجة أو حذف المميز إلا طرق أبي هريرة ففي بعضها ضعفًا وفي بعضها جزءًا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة ووجد هذا الأخير في بعض طرق أنس والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة والمراد أنه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد سبعًا وعشرين مرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على صلاته في بيته وصلاته في سوقه‏)‏ مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت والسوق جماعة وفرادى ولكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردًا‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ وهو الذي يظهر لي‏.‏ وقال الحافظ‏:‏ وهو الراجح في نظري قال‏:‏ ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية بين صلاة البيت والسوق إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية أن لا تكون إحداهما أفضل من الأخرى وكذا لا يلزم منه التسوية بين صلاة البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردًا بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد والصلاة في البيت مطلقًا أولى منها في السوق لما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد انتهى‏.‏

وقد استدل بالحديثين وما ذكرنا معهما القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة وقد تقدم ذكرهم لأن صيغة أفضل كما في بعض ألفاظ حديث ابن عمر تدل على الاشتراك في أصل الفضل كما تقدم وكذلك قوله في حديث أُبيِّ بن كعب ‏(‏أزكى‏)‏ والمشترك ههنا لا بد أن يكون هو الإجزاء والصحة وإلا فلا صلاة فضلًا عن الفضل والزكاة‏.‏

ـ ومن أدلتهم ـ على عدم الوجوب حديث‏:‏ ‏(‏إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة‏)‏ وقد تقدم في باب الرخصة في إعادة الجماعة‏.‏

ـ ومن أدلتهم ـ ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصليها ثم ينام‏)‏‏.‏

وفي رواية أبي كريب عند مسلم أيضًا‏:‏ ‏(‏حتى يصليها مع الإمام في جماعة‏)‏ ومن أدلتهم أيضًا أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر جماعة من الوافدين عليه بالصلاة ولم يأمرهم بفعلها في جماعة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز‏.‏

وهذه الأدلة توجب تأويل الأدلة القاضية بالوجوب بما أسلفنا ذكره وكذلك تأويل حديث ابن عباس المتقدم بلفظ‏:‏ ‏(‏من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر‏)‏ بأن المراد لا صلاة له كاملة على أن في إسناده يحيى بن أبي حية الكلبي المعروف بأبي جناب بالجيم المكسورة وهو كما قال الحافظ ضعيف ومدلس وقد عنعن وقد أخرجه بقي بن مخلد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم من طريق أخرى بإسناد قال الحافظ صحيح بلفظ‏:‏ ‏(‏من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر‏)‏ ولكن قال الحاكم وقفه أكثر أصحاب شعبة ثم أخرج له شاهدًا عن أبي موسى الأشعري بلفظ‏:‏ ‏(‏من سمع النداء فارغًا صحيحًا فلم يجب فلا صلاة له‏)‏ وقد رواه البزار موقوفًا قال البيهقي‏:‏ الموقوف أصح ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر‏.‏ ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه‏.‏ وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب وتبقية الأحاديث المشعرة بالوجوب على ظاهرها من دون تأويل والتمسك بما يقضي به الظاهر فيه إهدار للأدلة القاضية بعدم الوجوب وهو لا يجوز فأعدل الأقوال وأقربها إلى الصواب أن الجماعة من السنن المؤكدة التي لا يخل بملازمتها ما أمكن إلا محروم مشئوم وأما أنها فرض عين أو كفاية أو شرط لصحة الصلاة فلا‏.‏

ولهذا قال المصنف رحمه اللَّه بعد أن ساق حديث أبي هريرة ما لفظه‏:‏ وهذا الحديث يرد على من أبطل صلاة المنفرد لغير عذر وجعل الجماعة شرطًا لأن المفاضلة بينهما تستدعي صحتهما وحمل النص على المنفرد لعذر لا يصح لأن الأحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما يفعله لولا العذر فروى أبو موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر كتب اللَّه له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا‏)‏ رواه أحمد والبخاري وأبو داود‏.‏

وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ من توضأ فأحسن الوضوء ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه اللَّه عز وجل مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا‏)‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي انتهى‏.‏

استدل المصنف رحمه اللَّه بهذين الحديثين على ما ذكره من عدم صحة حمل النص على المنفرد لعذر لأن أجره كأجر المجمع‏.‏

والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده محمد بن طحلاء قال أبو حاتم‏:‏ ليس به بأس وليس له عند أبي داود إلا هذا الحديث وأخرج أبو داود عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ‏(‏حضر رجلًا من الأنصار الموت فقال‏:‏ إني محدثكم حديثًا ما أحدثكموه إلا احتسابًا سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء‏)‏ وفيه‏:‏ ‏(‏فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له وإن أتى المسجد وقد صلوا بعضًا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم كان كذلك‏)‏‏.‏

7 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ الصلاة في جماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا ابن ماجه قال أبو داود‏:‏ قال عبد الواحد بن زياد‏:‏ في هذا الحديث صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة وساق الحديث‏.‏

قال المنذري‏:‏ في إسناده هلال بن ميمون الجهني الرملي كنيته أبو المغيرة قال يحيى بن معين‏:‏ ثقة وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ ليس بقوي يكتب حديثه وقد وثقه أيضًا غير ابن معين كما قال ابن رسلان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا صلاها في فلاة‏)‏ هو أعم من أن يصليها منفردًا أو في جماعة قال ابن رسلان‏:‏ لكن حمله على الجماعة أولى وهو الذي يظهر من السياق انتهى‏.‏

والأولى حمله على الانفراد لأن مرجع الضمير في حديث الباب من قوله‏:‏ ‏(‏صلاها‏)‏ إلى مطلق الصلاة لا إلى المقيد بكونها في جماعة‏.‏

ويدل على ذلك الرواية التي ذكرها أبو داود عن عبد الواحد بن زياد لأنه جعل فيها صلاة الرجل في الفلاة مقابلة لصلاته في الجماعة والمراد بالفلاة الأرض المتسعة التي لا ماء فيها والجمع فلى مثل حصاة وحصى‏.‏

والحديث يدل على أفضلية الصلاة في الفلاة مع تمام الركوع والسجود وأنها تعدل خمسين صلاة في جماعة كما في رواية عبد الواحد وعلى هذا الصلاة في الفلاة تعدل ألف صلاة ومائتين وخمسين صلاة في غير جماعة وهذا إن كانت صلاة الجماعة تتضاعف إلى خمسة وعشرين ضعفًا فقط فإن كانت تتضاعف إلى سبعة وعشرين كما تقدم فالصلاة في الفلاة تعدل ألفًا وثلاثمائة وخمسين صلاة وهذا على فرض أن المصلي في الفلاة صلى منفردًا فإن صلى في جماعة تضاعف العدد المذكور بحسب تضاعف صلاة الجماعة على الانفراد وفضل اللَّه واسع‏.‏

ـ والحكمة ـ في اختصاص صلاة الفلاة بهذه المزية أن المصلي فيها يكون في الغالب مسافرًا والسفر مظنة المشقة فإذا صلاها المسافر مع حصول المشقة تضاعفت إلى ذلك المقدار‏.‏ وأيضًا الفلاة في الغالب من مواطن الخوف والفزع لما جبلت عليه الطباع البشرية من التوحش عند مفارقة النوع الإنساني فالإقبال مع ذلك على الصلاة أمر لا يناله إلا من بلغ في التقوى إلى حد يقصر عنه كثير من أهل الإقبال والقبول‏.‏

وأيضًا في مثل هذا الموطن تنقطع الوساوس التي تقود إلى الرياء فإيقاع الصلاة فيها شأن أهل الإخلاص‏.‏ ومن ههنا كانت صلاة الرجل في البيت المظلم الذي لا يراه فيه أحد إلا اللَّه عز وجل أفضل الصلوات على الإطلاق وليس ذلك إلا لانقطاع حبائل الرياء الشيطانية التي يقتنص بها كثيرًا من المتعبدين فكيف لا تكون صلاة الفلاة مع انقطاع تلك الحبائل وانضمام ما سلف إلى ذلك بهذه المنزلة‏.‏

والحديث ـ أيضًا من حجج القائلين بأن الجماعة غير واجبة وقد قدمنا الكلام على ذلك ‏.‏

 باب حضور النساء المساجد وفضل صلاتهن في بيوتهن

1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا ابن ماجه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن‏)‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏

2 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه وليخرجن تفلات‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

حديث ابن عمر هو بنحو اللفظ الآخر في الصحيحين أيضًا بدون قوله‏:‏ ‏(‏وبيوتهن خير لهن‏)‏ وهذه الزيادة أخرجها ابن خزيمة في صحيحه وللطبراني بإسناد حسن نحوها ولها شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود وحديث أبي هريرة أخرجه أيضًا ابن خزيمة من حديثه وابن حبان من حديث زيد بن خالد‏.‏ وأخرج مسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود‏:‏ ‏(‏إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا‏)‏ وأول حديث أبي هريرة متفق عليه من حديث ابن عمر كما عرفت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا استأذنكم نساؤكم بالليل‏)‏ لم يذكر أكثر الرواة بالليل كذا أخرجه مسلم وغيره‏.‏ وخص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة‏.‏ قال النووي‏:‏ واستدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ذلك إن كان أخذًا بالمفهوم فهو مفهوم لقب ضعيف لكن يتقوى بأن يقال إن منع الرجال نساءهم أمر متقرر وإنما علق الحكم بالمسجد لبيان محل الجواز فبقي ما عداه على المنع وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب لأنه لو كان واجبًا لا يبقى معنى للاستئذان لأن ذلك إنما هو متحقق إذا كان المستأذن مجيزًا في الإجابة والرد أو يقال إذا كان الإذن لهن فيما ليس بواجب حقًا على الأزواج فالأذن لهن فيما هو واجب من باب الأولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تمنعوا النساء‏)‏ مقتضى هذا النهي أن منع النساء من الخروج إلى المساجد إما مطلقًا في الأزمان كما في هذه الرواية وكما في حديث أبي هريرة أو مقيدًا بالليل كما تقدم أو مقيدًا بالغلس كما في بعض الأحاديث يكون محرمًا على الأزواج‏.‏ وقال النووي‏:‏ إن النهي محمول على التنزيه وسيأتي الخلاف في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبيوتهن خير لهن‏)‏ أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك لكنهن لم يعلمن فيسألن الخروج إلى الجماعة يعتقدن أن أجرهن في المساجد أكثر‏.‏ ووجه كون صلاتهن في البيوت أفضل الأمن من الفتنة ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة ومن ثم قالت عائشة ما قالت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إماء اللَّه‏)‏ بكسر الهمزة والمد جمع أمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليخرجن تفلات‏)‏ بفتح التاء المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات يقال امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح كذا قال ابن عبد البر وغيره وإنما أمرن بذلك ونهين عن التطيب كما في رواية مسلم المتقدمة عن زينب امرأة ابن مسعود لئلا يحركن الرجال بطيبهن‏.‏ ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره والزينة الفاخرة‏.‏ وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر لأنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل‏.‏

3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة‏)‏‏.‏

رواه مسلم وأبو داود والنسائي‏.‏

4 - وعن أم سلمة‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ خير مساجد النساء قعر بيوتهن‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

5 - وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏لو أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها قلت لعمرة ومنعت بنو إسرائيل نساءها قالت نعم‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

حديث أم سلمة أخرجه أبو يعلى أيضًا والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن لهيعة وقد تقدم ما يشهد له‏.‏

وأخرج أحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقالت‏:‏ ‏(‏يا رسول اللَّه إني أحب الصلاة معك فقال صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة‏)‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده حسن‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏قال صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصابت بخورًا‏)‏ فيه دليل على أن الخروج من النساء إلى المساجد إنما يجوز إذا لم يصحب ذلك ما فيه فتنة كما تقدم وما هو في تحريك الشهوة فوق البخور داخل بالأولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تشهدن‏)‏ في بعض النسخ هكذا بزيادة نون التوكيد وفي بعضها بحذفها وظاهر النهي التحريم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأى من النساء ما رأينا لمنعهن‏)‏ يعني من حسن الملابس والطيب والزينة والتبرج وإنما كان النساء يخرجن في المروط والأكسية والشملات الغلاظ‏.‏ وقد تمسك بعضهم في منع النساء من المساجد مطلقًا بقول عائشة وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد في زمانه صلى اللَّه عليه وسلم بل قالت ذلك بناء على ظن ظنته فقالت لو رأى لمنع فيقال عليه لم ير ولم يمنع وظنها ليس بحجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كما منعت بنو إسرائيل نساءها‏)‏ هذا وإن كان موقوفًا فحكمه الرفع لأنه لا يقال بالرأي وقد روى نحوه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت نعم‏)‏ يحتمل أنها تلقته عن عائشة ويحتمل أن يكون عن غيرها وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفًا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه‏:‏ ‏(‏قالت‏:‏ كنَّ نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلًا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد فحرم اللَّه تعالى عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة‏)‏ وقد حصل من الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الأذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعوا إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة واجب على الرجال وأنه لا يجب مع ما يدعو إلى ذلك ولا يجوز ويحرم عليهن الخروج لقوله ‏(‏فلا تشهدن‏)‏ وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد‏.‏

 باب فضل المسجد الأبعد والكثير الجمع

1 - عن أبي موسى قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن أعظم الناس في الصلاة أجرًا أبعدهم إليها ممشى‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

2 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده عبد الرحمن بن مهران مولى بني هاشم‏.‏ قال في التقريب‏:‏ مجهول‏.‏ وقال في الخلاصة‏:‏ وثقه ابن حبان انتهى‏.‏ وبقية رجاله رجال الصحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أعظم الناس في الصلاة أجرًا أبعدهم إليها ممشى‏)‏ فيه التصريح بأن أجر من كان مسكنه بعيدًا من المسجد أعظم ممن كان قريبًا منه وكذلك قوله ‏(‏الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا‏)‏ وذلك لما ثبت عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع اللَّه له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد‏)‏ الحديث‏.‏

ولما أخرجه أبو داود عن سعيد بن المسيب عن رجل من الصحابة مرفوعًا وفيه‏:‏ ‏(‏إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب اللَّه له عز وجل حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط اللَّه عنه سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد‏)‏ الحديث‏.‏

ولما أخرجه مسلم عن جابر قال‏:‏ ‏(‏خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال لهم‏:‏ إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا‏:‏ نعم يا رسول اللَّه قد أردنا ذلك فقال‏:‏ يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم‏)‏‏.‏

3 - وعن أُبيِّ بن كعب قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى اللَّه تعالى‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا ابن ماجه وابن حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وأشار ابن المديني إلى صحته وفي إسناده عبد اللَّه بن أبي نصير قيل لا يعرف لأنه ما روى عنه غير أبي إسحاق السبيعي لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار بن حريث عنه فارتفعت جهالة عينه وأورد له الحاكم شاهدًا من حديث قياس بن أشيم وفي إسناده نظر‏.‏ وأخرجه البزار والطبراني‏.‏ وعبد اللَّه المذكور وثقه ابن حبان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أزكى من صلاته وحده‏)‏ أي أكثر أجرًا وأبلغ في تطهير المصلي وتكفير ذنوبه لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة دون الانفراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما كان أكثر فهو أحب إلى اللَّه تعالى‏)‏ فيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل مما قل جمعه وأن الجماعات تتفاوت في الفضل وأن كونها تعدل سبعًا وعشرين صلاة يحصل لمطلق الجماعة والرجل مع الرجل جماعة كما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال‏:‏ الرجل مع الرجل جماعة لهما التضعيف خمسًا وعشرين انتهى‏.‏ وقد أخرج ابن ماجه عن أبي موسى والبغوي في معجم الصحابة عن الحكم بن عمير الثمالي‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ اثنان فما فوقهما جماعة‏)‏ وأحاديث التضاعف إلى هذا المقدار التي تقدم ذكرها لا ينافي الزيادة في الفضل لما كان أكثر لا سيما مع وجود النص المصرح بذلك كما في حديث الباب‏.‏